سورة التوبة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً، وذلك مقتض لتحقيرهم لا لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه {إن كثيراً من الأحبار} أي من علماء اليهود {والرهبان} أي من زهاد النصارى {ليأكلون} أي يتناولون، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه {أموال الناس بالباطل} أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فيكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عباده إليهم.
ولما أخبر عن إقبالهم على الدنيا، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال: {ويصدون} أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم {عن سبيل الله} أي دين الملك الذي له الأمر كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفاً على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق.
ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال، شرع سبحانه على مطلق الكنز، ففهم من باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال: {والذين} أي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين {يكنزون} أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم: مكتنز {الذهب والفضة} أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية.
ولما كان من المعلوم أنهما أجل ما الناس، وكان الكنز دالاً على المكاثرة فيهما، أعاد الضمير عليهما بما يدل على الأنواع الكثيرة فقال: {ولا ينفقونها} أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر من وهي مرادة لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها، والحاجة إليها لكثرتها أقل، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب؛ وقال الحرالي في آل عمران: فأوقع الإنفاق عليهما ولم يخصه من حيث لم يكن، ولا ينفقون منها كما قال في المواشي [خذ من أموالهم] لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة، فكان كسرهما بإذهابهما-انتهى.
{في سبيل الله} أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه {فبشرهم} أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكماً بهم: بشرهم {بعذاب أليم} عوضاً عما أرادوا من السرور بإنجاح المقاصد.
ولما كان السياق دالاًّ دلالة واضحة على أن هذا العذاب يحصل لهم ويقع بهم، فنصب بذلك قوله: {يوم يحمى} أي يحصل الإحماء وهو الإيقاد الشديد {عليها} أي الأموال التي جمعوها {في نار جهنم} أي التي لا يقاربها ناركم، وتلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى بذلك الفقراء وغيرهم من أهل الله لا سيما من منعه ما يجب له من النفقة {فتكوى بها} أي بهذه الأموال {جباههم} التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء {وجنوبهم} التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها عن الفقراء {وظهورهم} التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان. ثم يقال لهم: {هذا ما كنزتم} وأشار إلى الحامل على الجمع المنافي للعقل بقوله: {لأنفسكم} أي لتنافسوا به وتلتذوا فلم تنفقوه فيما أمر الله {فذوقوا ما} أي وبال وعذاب ما {كنتم تكنزون} أي تجددون جمعه على سبيل الاستمرار حريصين عليه، وأشار بفعل الكون إلى أنهم مجبولون على ذلك؛ روى البخاري في التفسير عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر رضي الله عنه بالربذة قلت: ما أنزلك بهذه الأرض قال: كنا بالشام فقرأت {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآية، قال معاوية: ماهذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب! قلت: إنها لفينا وفيهم؛ وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال، يعني فما أعطى صاحبه ما وجب عليه فيه فليس بكنز.
ولما تقدم كثير مما ينبني على التاريخ: الحج في غير موضع والأشهر وإتمام عهد من له مدة إلى مدته والزكاة والجزية، وختم ذلك بالكنز الذي لا يطلق شرعاً إلا على ما لم تؤد زكاته، وكان مشركو العرب- الذين تقدم الأمر بالبراءة منهم والتأذين بهذه الآيات يوم الحج الأكبر فيهم- قد أحدثوا في الأشهر- بالنسيء الذي أمروا أن ينادوا في الحج بإبطاله- ما غير السنين عن موضوعها الذي وضعها الله عليه، فضاهوا به فعل أهل الكتاب بالتدين بتحليل أكابرهم وتحريمهم كما ضاهى أولئك قول أهل الشرك في النبوة والأبوة، قال تعالى: {إن عدة الشهور} أي منتهى عدد شهور السنة {عند الله} أي في حكم وعلم الذي خلق الزمان وحده وهو الإله وحده فلا أمر لأحد معه {اثنا عشر شهراً} أي لا زيادة عليها ولا تغيير لها كما تفعلونه في النسيء {في كتاب الله} أي كلام الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وحكمه الذي هو مجمع الهدى، فهو الحقيق بأن يكتب، وليست الشهور ثلاثة عشر ولا أكثر كما كان يفعل من أمرتكم بالبراءة منهم كائنين منة كانوا في النسيء {يوم} أي كان ذلك وثبت يوم {خلق السماوات والأرض} أي اللذين نشأ عنهما الزمان.
والمعنى أن الحكم بذلك كان قبل أن يخلق الزمان {منها} أي الشهور {أربعة حرم} أي بأعيانها لا بمجرد العدد {ذلك} أي الأمر العظيم والحكم العالي الرتبة في الإتقان خاصة {الدين القيم} أي الذي لا عوج فيه ولا مدخل للعباد، وإنما هو بتقدير الله تعالى للقمر؛ روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال- يعني في حجة الوادع: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان» ولما بين الأمر سبب عنه قوله: {فلا تظلموا فيهن} أي الأشهر الحرم {أنفسكم} أي بسبب إنساء بعضها وتحريم غيره مكانة لتوافقوا العدد- لا العين- اللازم عنه إخلال كل منها بإيقاع الظلم فيه وتحريم كل من غيرها، قال قتادة: العمل الصالح والفاسد فيها أعظم منه في غيرها وإن كان ذلك في نفسه عظيماً فإن الله تعالى لعظم من أمره ما شاء؛ وقال أبو حيان ما حاصله: إن العرب تعيد الضمير على جمع الكثرة كالواحدة المؤنثة فلذا قال: {منها أربعة} أي من الشهور، وعلى جمع القلة لما لا يعقل بنون جمع المؤنث فلذا قال {فلا تظلموا فيهن} أي في الأربعة.
ولما كان إنساؤهم هو لتحل لهم المقاتلة على زعمهم قال: {وقاتلوا المشركين كافة} أي كلكم في ذلك سواء، في الائتلاف واجتماع الكلمة {كما يقاتلونكم كافة} أي كلهم في ذلك سواء وذلك الحكم في جميع السنة، لا أنهاكم عن قتالهم في شهر منها، فأنتم لا تحتاجون إلى تغيير حكمي فيها لقتال ولا غيره إن اتقيتم الله، فلا تخافوهم وإن زادت جموعهم وتضاعفت قواهم لأن الله يكون معكم {واعلموا أن الله} أي الذي له جميع العظمة معكم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعليقاً للحكم به وتعميماً فقال: {مع المتقين} جميعهم، وهم الذين يثبتون تقواهم على ما شرعه لهم، لا على النسيء ونحوه، ومن كان الله معه نصر لا محالة.


ولما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه، كان كأنه قيل: أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه؟وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه، وكان يشق عليهم ترك ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فجعلوا النسيء لذلك، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى: ليس فيه شيء من ذلك: {إنما النسيء} أي تأخير الشهر إلى شهر آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً- إذا أخره، أو هو اسم مفعول، أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها {زيادة في الكفر} أي لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه.
ولما بين ما في النسيء من القباحة، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ، فكان يقول: إني لا أجاب ولا أعاب، وإنه لا مراد لقضائي، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً- إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله: {يضل به} أي بهذا التأخير الذي هو النسيء {الذين كفروا} أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله- هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص- بالبناء للمفعول: يضلهم مضل من قبل الله، وعلى قراءة يعقوب- بالضم: يضلهم الله؛ ثم بين ضلالهم بقوله: {يحلونه} أي ذلك الشهر، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي فقال: {عاماً ويحرمونه عاماً} هكذا دائماً كلما أرادوا. وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين {ليواطئوا} أي يوافقوا {عدة ما حرم الله} أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة {فيحلوا} أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا {ما حرم الله} أي الملك الأعظم منها كلها، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها، فما أبعده من ضلال!
ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم، كان كأنه قيل: إن هذا لعجب! ما حملهم على ذلك؟ فقيل: {زين} أي زين مزين، وقرئ شاذاً بإسناد الفعل إلى الله {لهم سوء أعمالهم} أي حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم {والله} أي الذي له صفات الكمال {لا يهدي} أي يخلق الهداية في القلوب {القوم الكافرين} أي الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه؛ والنسيء- قال في القاموس-: الاسم من نسأ الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره، قال: وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه؛ وقال ابن الأثير في النهاية؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول، وقال ابن فارس في المجمل: والنسيء في كتاب الله التأخير، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء! فيقولون: أنسئنا شهراً، اي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر- انتهى.
ومادة نسأ تدور على التغريب، وسبب فعلهم هذا أنهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر؛ قال ابن فارس: وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم- انتهى. وكان النسأة من بني فقيم من كنانة، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد ابن فقيم، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. نسأ أربعين سنة، كانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة، فإذا أرادوا أن يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفراً فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل- ذكر ذلك أهل السير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول من نسأ عمرو بن لحي.
وتحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف أسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من اتى فيه بما يتضح به قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما مضى «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وها أنا أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى، فمعنى قوله: ونسأت الآخر للعام المقبل، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها، فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران، وقد كان ينبغي ان يكون بينهما شهر واحد، فأخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل، فالمعنى: وأخرت الصفر الآخر عن محله إلى العام المقبل فإذا جاء العام المقبل انتهى تأخره، وإذا انتهى رجع إلى محله، ويمكن أن يتنزل على هذا قول أبي عبيد في غريب الحديث، قال بعد النصف من الجزء الثالث منه في شرح الاستدارة: إن بدء ذلك- والله أعلم- أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسيء الذي قال الله {إنما النسيء} [براءة: 37] الآية، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسؤون الشهور على العرب، والنسيء هو التأخير، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأول بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا صفر» على هذا، ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاماً، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه، قال أبو عبيد: الأول أحب إليّ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار» وليس في التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله: {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله في التفسير، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. وقال أبو حيان في النهر ما حاصله: كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم، وكان بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم، فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، فيحل المحرم، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول- وهكذا سائر الشهور، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر؛ وقال البغوي: قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين وحجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوادع، فوافق حجه أشهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، فكان المشركون يسمون الأشهر: ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة، ثم يحجون فيه مرة أخرى، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، فيسمونه- أحسبه قال- المحرم صفر، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ورمضان شوالاً.
ثم يسمون ذا القعدة شوالاً. ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا كمثل هذه الصفة فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذلك ذا الحجة، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وقال ابن إسحاق في السيرة؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة كل اثنتي عشرة سنة مرة، فوفق الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حج ذا الحجة، فحج فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض»، فقلت لابن أبي نجيح: فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال: على ما كان الناس يحجون عليه، ثم قال ابن أبي نجيح: كانوا يحجون في الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثنى عشر شهراً انتهى.
وقوله هذا يوهم أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً، وتقدم عن المهدوي وغيره التصريح بأنه كان في ذي القعدة- وفيه نظر، لأن السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام إنساء، ولما مضى من الشهر الذي حج فيه عشرة أشهر، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي صلى الله عليه وسلم في أواخره إلى الحج موافياً لهلال ذي الحجة، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار، فعلم قطعاً أن استدارته كانت في حجة أبي بكر، وكذا في سنة ثمان وهي السنة التي حج فيها عتاب بالمسلمين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ولا غير نسأتهم، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا أمر النسأة أنهم اعتبروا ما هو زيادة من الكفر، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة، وقد تقدم النقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى الحج في أواخر ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع، ووافاه العرب في ذي الحجة: الكفار وغيرهم، فوقع إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في ذي القعدة بنسيء لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين، فثبت بهذا أيضاً أن حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين، وما هي بأول نعمة عليهم- والله الموفق؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي احمد المشهور بابن القاص من أكابر متقدمي أصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة: فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلة، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني ساعات وأربعة أخماس ساعة، وقالت الهند: السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة، وذلك من دخول الشمس برأس الحمل إلى أن تدخل فيه من قابل، ففضل ما بين السنة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة، فإذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس، وكانت العرب تزيده في الجاهليه، وكان الذي أبدع لهم ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس، وذلك أنه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، وسماه نسيئاً، ويحج بهم تلك السنة في المحرم، فأنزل الله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وافق الحج في تلك السنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«أيها الناس! ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}» يعنى به الحساب القيم، فالحرم رجب جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فسمي ذلك الحج الأقوم، وقال الشاعر:
وأبطل ذو العرش النسي وقلمسا *** وفاز رسول الله بالحج الأقوم
انتهى.
والقلمس بفتح اللام وتشديد الميم، فالنسيء في البيت متروك الهمز ليصح الوزن، والأقوم منقول حركة الهمزة، وقوله: إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية- فيه نظر، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبر، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب، وكان ذلك كما تقدم في شدة الحر وحين طابت الثمار، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر لمسماه لا لمسمى شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ما ذكر إلا لأجله، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه: «إن النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً» فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً، وقال: منها أربعة حرم، وعينها وقال: أيّ شهر هذا؟ فلما سكتوا قال: ذو الحجة شهر حرام، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر عما غيره أهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب، فإن عباداتهم خاصة بوقت من السنة لا تتعداه- والله الموافق له، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره، حثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس قال؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم.
والحاصل أنه لا شك في أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم، وان الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة اللغة والحديث والأخبار، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني في شمس العلوم والقزاز في ديوانه وابن مكتوم في ترتيب العباب والمحكم: ذو الحجة بالكسر: شهر الحج، زاد المحكم: سمي بذلك للحج، وقال القزاز؛ إن الفتح فيه أشهر، وفي النهاية: يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، أي يستقون ويسقون؛ وقال المجد في القاموس: يوم عرفة التاسع من ذي الحجة، وفي كتاب أسواق العرب لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري أن عكاظ كانت من أعظم أسواق العرب. فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ، وعكاظ في أعلى نجد، فأقاموا بها حتى التروية، ووافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق. قال الأزرقي في تاريخ مكة: فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز، وإنما سمي يوم التروية لترويهم الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضاً: ترووا من الماء، إنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار، قال: ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية. وروى البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة- فرقهما- قالا: وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، ثم أسند عن ابن إسحاق انه قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم، فكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة أو في الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد سنة ثمان، وحديث اعتماره صلى الله عليه وسلم في ذي العقدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم- فذكرعمرته ثم قال: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعه لثلاث بقين من ذي القعدة، قال الواقدي: فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين- انتهى.
إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة، وهو مما لا يدور في خَلَد ولا يقع في وهم فيه تردد، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء، وعلم أيضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إلى المدينة الشريفة، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل، وأن حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان ذي الحجة لذلك ولما تقدم من أن سفره له من المدينة الشريفة كان آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم: إن الأربعة الأشهر التي ضربت للمشركين من يوم النحر ولقولهم: إن الأربعة الأشهر كان آخرها عاشر ربيع الآخر، وعلم أن ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع ذو الحجة سنة عشر التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي وضعه الله به إلا بأن تكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً بنسيء أو غيره، وكل من الأمرين باطل، أما الأول فلأن الله تعالى أبطل النسيء في تلك السنة فيما أبطله من أمور الجاهلية في هذه السورة، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بالمناداة بها كما مر، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض، والخارق مما تتوفر الدواعي [على] نقله، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثني عشر شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء بسواء، وقد ثبت أن الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فثبت من غير مرية أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع.
فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً، فكان ذو الحجة فيها في موضعه الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع، بل ظاهر قوله أبي عبيد: فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه- كما مضى- أن الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء، وهو الذي اعتقده، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال: إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا القعدة، أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار» أن الاستدارة لم تكن إلا في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب ما لا يخفي والله الوفق: ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي الطبراني: الأوسط والأصغر للحافظ نور الدين الهيثمي بمثل ما فهمته، قال في تفسير براءة: حدثنا إبراهيم- يعني ابن هشام- البغوي ثنا الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس وافق ذلك العام الحج فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» لم يروه عن عمرو إلا داود تفرد به الصلت- انتهى. وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، ثم رأيت الهيثمي في مجمع الزوائد قال: رجاله ثقات، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن، وإنما أطلت هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين.


ولما أوعز سبحانه في أمر الجهاد، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن أمره سبحانه، وكان ابتداؤها في شهر رجب سنة تسع، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين- الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم [لأن لا هداية له أعمى، والأعمى لا يخشى]: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {ما لكم} أي ما الذي يحصل لكم في أنكم {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان {انفروا} أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات ووحداناً إمداداً لحزب الله ونصراً لدينه تصديقاً لدعواكم الإيمان، والنفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك {في سبيل الله} أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال، وقال أبو حيان: بني {قيل} للمفعول والقائل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره- انتهى. {اثاقلتم} أي تثاقلتم تثاقلاً عظيماً، وفيه ما لم يذكروا له سبباً ظاهراً بما أشار إليه الإدغام إخلاداً وميلاً {إلى الأرض} أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها، فكنتم أرضيين في سفول الهمم، لا سمائيين بطهارة الشيم.
ولما لم يكن- في الأسباب التي تقدم أنها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد- ما يحتمل القيام بهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقاً بها والإعراض عن الغنى الموعود به الذي ربما يلزم من الإعراض عنه التكذيب، فيؤدي إلى خسارة الآخر، هذا مع ما يلزم على ذلك- ولا بد- من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس؛ قال مبيناً خسة ما أخلدوا إليه تزهيداً فيه وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم: {أرضيتم بالحياة الدنيا} أي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة {من الآخرة} أي الفاخرة الباقية؛ قال أبو حيان: و{من} تظافرت أقوال المفسرين أنها بمعنى بدل، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل- انتهى. والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لابتداء الغاية، فإذا قلت: رضيت بكذا من زيد، كان المعنى أنك أخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك المأخوذ.
ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع، كان إقبالهم على الدنيا كأنه مبتدئ مما كانوا قد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها، فكأنه قيل: أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الآخرة؟ ويؤيد ما فهمته أن العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية انهم عدوا ل {من} خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين، وبين كيفية ذلك حتى البيانية، فمعنى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] الذي ابتداؤه من الأوثان، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها.
ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي، فكان تقدير: لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده! فقال تعالى معللاً لهذا النهي: {فما} أي بسبب أنه ما {متاع الحياة الدنيا في} أي مغموراً في جنب {الآخرة إلا قليل} والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً.
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف، توعدهم بقوله: {إلا تنفروا} أي في سبيله {يعذبكم} أي على ذلك {عذاباً أليماً} أي في الدارين {ويستبدل} أي يوجد بدلاً منكم {قوماً غيركم} أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه.
ولما هددهم بما يضرهم، أخبرهم أنهم لا يضرون بفتورهم غير أنفسهم فقال: {ولا تضروه} أي الله ورسوله {شيئاً} لأنه متم أمره ومنجر وعده ومظهر دينه؛ ولما أثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول إلى ضره، كان التقدير: لأنه قادر على نصر دينه ونبيه بغيركم، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله: {والله} أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء قدير}.
ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم- وهو نبيه صلى الله عليه وسلم غير محتاج إليه ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم- بحياطة القادر له- فيما مضى من الهجر التي ذكرها، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما عدوه واستدفاع ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله: {فما متاع الحياة الدنيا} الآية وقوله: {إلا تنفروا} الآية، فقال: {إلا تنصروه} أي أنتم طاعة لأمر الله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم إما على طريق الاستخدام من سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله: {إذا قيل لكم} أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم، وإظهاراً في قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله} [التوبة: 34] الاية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره، وذكر الغاز والصاحب أوضح الأمر. وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أرباباً اشتدت الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب: هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء.
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى، وكان بعضهم قد توانى في ذلك، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط: {فقد} أي إن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد {نصره الله} أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي {إذ} أي حين {أخرجه الذين} وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال: {كفروا} أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه أو إثباته، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه {ثاني اثنين} أي أحدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله {إذ هما في الغار} أي غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم {إذ يقول} أي رسول الله صلى الله عليه وسلم {لصاحبه} أي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء {لا تحزن} والحزن: هم غليظ بتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى؛ وقال في القاموس: أو أحزنه: جعله حزيناً، وحزّنه: جعل فيه حزناً؛ ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب {إن الله} أي الذي له الأمر كله {معنا} أي بالعون والنصرة، وهو كاف لكل مهم، قوي على دفع ملم، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أخر، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه؛ قال أبو حيان وغيره: قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه كفر لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة.
ولما كان رضي الله عنه نافذ البصيرة في المعارف الإلهية، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخاع الأنداد، ثم تدرب فيه مترقياً لثلاث عشرة سنة، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين، ولم يكن جنباً ولا سوء ظن، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكر بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم، ويتصاغر في جنبها كل كبير، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات ومابعده علة له. وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم بها مما كانوا فيه، ومنع موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات: هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم ام لا؟ فلذلك قد إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكر به فقال {كلا إن معي ربي} [الشعراء: 62] فكأن قيل: ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فقال {سيهدين} أي إلى ما أفعل، يعرف ذلك من كان متضلعاً بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوارة، مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قتلت أنا فأنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، وأنه كان عارفاً بأن الله تعالى تكفل بإظفار الدين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر، وكان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الناس، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله: {فأنزل الله} أي الملك الأعظم {سكينته} أي السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك {عليه} أي الصديق- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما- لأن السكينة لم تفارق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطف على نصره الله قوله: {وأيده} أي النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه {بجنود لم تروها} أي من الملائكة الكرام {وجعل كلمة} أي دعوة {الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره {السفلى} فخيّب سعيهم ورد كيدهم، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في وقت من الأوقات فقال: {وكلمة الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء، ونصبها يعقوب عطفاً على ما سبق {هي العليا} أي وحدها، لايكون إلا ما يشاءه دائماً أبداً، فالله قادر على ذلك {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عزيز} أي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره {حكيم} لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها.
ولما بلغت هذه الماعظ من القلوب الواعية مبالغاً هيأها به للقبول، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال: {انفروا خفافاً وثقالاً} والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا- انتهى. قال البغوي: قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب رحمه الله الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع؛ وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح عن أنس أن أبا طلحة رضي الله عنهما قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: لا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً! جهزوني، فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فما تغير، {وجاهدوا} أي أوقعوا جهدكم ليقع جهد الكفار.
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار- كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين: قلته، ومحبة الإقامة في الحدائق أيثاراً للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى: {بأموالكم وأنفسكم} أي بهما معاً على ما أمكنكم أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع {ذلكم} أي الأمر العظيم {خير} أي في نفسه حاصل {لكم} أي خاص بكم، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائناً ما كان، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال: هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله: {إن كنتم تعلمون} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية، فإن العلم- ولا يعد علماً إلا النافع- يحث على العمل وعلى إحسانه باخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8